قلما يجادل أحد في أنّ فكرة العقد الاجتماعي تتعيّن قانونياً أو حقوقياً في الدستور، الذي تتحدّد بموجبه هوية الدولة ونظامها العام ومؤسساتها الرئيسية ووظائفها الاجتماعية. وفكرة العقد تحيل دوماً على علاقة جدلية متغيّرة بين المجتمع والدولة، ما يعني أن التطلع إلى دولة ديمقراطية، على نحو ما تتطلّع القوى الصاعدة في المجتمع السوري، يعني التطلع إلى مجتمع مدني، وإلا فإن الديمقراطية لا تزيد على كونها إجراءات شكلية، كالانتخاب والتمثيل، تقنِّع التسلط والاستبداد، وتعيد إنتاج البنى البطركية، الذكورية، وتعمّق التحاجز الاجتماعي. الدولة الديمقراطية مجتمع ديمقراطي أو لا تكون. لذلك يحسن الحديث اليوم عن "دولة سياسية" بتعبير ماركس، أو دولة وطنية، هي دولة حق وقانون ومؤسسات عامة لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي.
الدستور هو القانون الأساسي للدولة، يعبّر عن سيادتها واستقلالها؛ لكن الدستور الجيّد لا يعني دولة جيّدة بالضرورة، ما يقتضي الحديث عن دستور ممكن لدولة ممكنة، على أن يفهم الإمكان بأنه حضور المستقبل أو استقدامه. الإمكان هو الرابطة الزمانية – المكانية بين الحاضر والمستقبل، أو بين الواقع القائم، في كل لحظة تاريخية، والأفق الذي يتجه إليه.
فقد اتسمت الحياة السياسية السورية، بوجه عام، والحياة الدستورية، بوجه خاص، بالقلق والاضطراب، منذ نشوئها حتى اليوم، باستثناء فترة من "الاستقرار" أو "سلام القبور" بين عامي 1984 و2011: انتفاضات وثورات مسلّحة ومظاهرات وإضرابات مناهضة للاستعمار، قبل الاستقلال، وانقلابات عسكرية وقلاقل داخلية وحروب، بعد الاستقلال، قدم السوريون خلالها مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين، وعانى مئات الآلاف من الاعتقال التعسفي والتعذيب والنفي والتهجير.
واتسمت النخبة السياسية والثقافية بالتردد في تعريف سورية، هل هي دولة مستقلة ذات سيادة أم دولة "قطرية" عابرة ومؤقتة ريثما تقوم دولة الوحدة العربية أو دولة سوريا الكبرى أو الخلافة الإسلامية أو دولة الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين .. فضلاً عن اختلاف اتجاهات النخبة وتباين أولوياتها. وقد تجلى ذلك كله في اضطراب الحياة الدستورية وهشاشتها، إذ كان أول دستور وضعته جمعية تأسيسية هو دستور 3 تموز 1920، تلاه دستور 14 أيار 1930، ثم دستور 5 أيلول 1950، ودستور 21 حزيران 1953، وجرى إلغاؤه في آذار 1954 والعودة إلى دستور 1950، ثم الدستور المؤّقت للجمهورية العربية المتحدة 5 آذار 1958، تلاه الدستور المؤقت الذي صدر، بعد الانفصال، في 12 تشرين الثاني 1961، ثم الدستور المؤقت 24 نيسان 1964، بعد استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في الثامن من آذار 1963، والدستور الدائم عام 1973، وصولاً إلى دستور 2011.
ويلاحظ أن القوى العسكرية والأمنية كانت قوة الحسم الأساسية في الصراعات السياسية، ثم صارت قوة الحكم الوحيدة، منذ عام 1970. فإنّ كثرة الانقلابات العسكرية والمحاولات الانقلابية، وكثرة الدساتير تعني أن العقد الاجتماعي كان ولا يزال هشاً، وأن الوحدة الوطنية لا تزال مشروعاً على جدول أعمال السوريين.
تسعة دساتير أو تسعة عقود "اجتماعية" خلال نيف وتسعين عاماً. فما هي حظوظ عقد اجتماعي جديد؟
ليس من الصواب تجاهل البعد المذهبي للحرب الدائرة اليوم، وإن كان لا يستنفدها، وليس من الصواب تجاهل سلسلة المؤتمرات التي عقدت تحت عناوين مذهبية، مسيحية وعلوية ودرزية .. بغض النظر عن بواعثها وأهدافها وبياناتها الختامية، أو تجاهل الحالة الكوردية والمسألة الكوردية والمسألة الآثورية وغيرها مما يشير إلى علاقة الدولة بالمجتمع وعلاقة السلطة بالشعب وهدر العوامل المؤهبة للاندماج الاجتماعي. وليس من الصواب تجاهل عجز المعارضة والموالاة عن بلورة رؤية وطنية ديمقراطية أو مشروع وطني ديمقراطي يعيّن آفاق الحل السياسي، ويضع حداً للتدخلات والمداخلات الخارجية.
في ضوء ما تقدّم، لا بد من توسيع خيارات السوريات والسوريين وإطلاق نقاش عام حول بنود العقد الاجتماعي أو المبادئ الدستورية المقترحة، وقيام مراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني وفي مقدمها الأحزاب السياسية بدراسات ميدانية واستطلاعات رأي قابلة للتحقّق من صحتها حول المبادئ الآتية:
1 – الحريات الشخصية للأفراد إناثاً وذكوراً، والحريات الخاصة والعامة.
2 – المساواة بين الأفراد إناثاً وذكوراً في الحقوق المدنية والسياسية، وتساوى الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية في القيمة الروحية والحقوق المدنية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، إذ كثرة العدد أو قلته لا تضيفان شيئاً إلى ماهيتها ولا تنقصان منها شيئاً، ولا يجوز أن تنتج منها أي نتيجة سياسية.
3 – العدالة الانتقالية والعدالة الاجتماعية.
4 –اسم الدولة ونظامها العام اللذين يدور حولهما جدل واسع، ولا يجوز أن تقرّرهما سوى هيئة تأسيسية منتخبة انتخاباً صحيحاً.
5 – بنية الدولة، هل هي مركزية مطلقة أم مركزية مقيّدة بمجلس شيوخ وسلطات إدارية واقتصادية وثقافية واسعة لمجالس محلية منتخبة على أساس الدائرة الضيقة والانتخاب الفردي، بما في ذلك انتخاب المحافظين ومديري الدوائر العامة وقادة الشرطة المدنية والجنائية والشرطة البلدية والضابطة العدلية، أم دولة فدرالية وهذه تقتضي إعادة النظر في التقسيمات الإدارية وتقليصها إلى بضعة أقاليم، واحد منها فقط على أساس إثني، خاص بالكورد السوريين، ويتمتع بالحكم الذاتي. وتنتخب الأقاليم برلماناتها وحكوماتها المحلية وينظم الدستور علاقاتها بالدولة الفدرالية والبرلمان الفدرالي والحكومة الفدرالية.
الخيارات الأخيرة حاسمة في مستقبل سوريا، وإن كان بعضنا يستهجنون الحديث عن نظام فدرالي، ويرون فيه تقسيماً للبلاد أو مقدمة للتقسيم، لأن مفهومهم للدولة ملتبس بالسلطة، في وعي السوريين وثقافتهم، والسلطة ميّالة دوماً إلى السيطرة المركزية المطلقة، في حين أن النظام الفدرالي يحد من السيطرة المركزية، ويتيح فرصاً أوفر للمشاركة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة وفي التنمية الإنسانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ويعزّز، من ثم، قيم المواطنة ومبادئها، ويحول دون تهميش فئات اجتماعية برمتها أو مناطق برمتها. وهو، في المحصلة أدنى إلى الديمقراطية وأدعى إلى الاستقرار السياسي، والديمقراطية هي قوام الوطنية أو لا تكون.
وفي جميع الأحوال، يستمد العقد الاجتماعي مضمونه من صفته الاجتماعية، العمومية، ولا يكون كذلك إلا إذا كان عقداً بين مواطنات حرائر ومواطنين أحرار، لا بين جماعات إثنية أو دينية أو مذهبية أو قوى مسلحة. ولكي يكون عقداً صحيحاً، لا بد من انتخاب هيئة تأسيسية واسعة، وفق نظام الدوائر الصغرى والانتخاب الفردي: لكل مواطنة أو مواطن صوت واحد لمرشحة واحدة أو مرشح واحد. ويقرر قانون الانتخاب نسب التمثيل وفقاً للدوائر الصغرى، كما يقرر شروط الترشح والصفات التي يجب أن يتمتع بها المرشح، وهذه يفترض أن تساير مستوى تطوّر المجتمع وتوّسع التعليم، فلا يجوز أن يشترط في المرشح "أن يكون ملماً بالقراءة والكتابة"، فقط، على نحو ما كان شائعاً في قوانين الانتخاب، بل لا بد أن تكون المرشحة حائزة على شهادة معهد متوسط، على الأقل، أو درجة جامعية، وكذلك المرشح. كما ينبغي إتاحة الفرصة للشابات والشباب للمشاركة في الحياة العامة بتخفيض شرط السن لمن يتمتعن أو يتمتعون بحق الانتخاب إلى 17 سنة أو أقل. وعلى تنظيمات المجتمع المدني أن تنشط في تشجيع النساء على الترشح، لكي يكون الحد من مركزية السلطة السياسية حداً من المركزية الذكورية في الوقت نفسه. فإن قانون الانتخاب لا يقل أهمية عن الدستور، لا لأنّه يعيّن الهيئة التي تضع الدستور فقط، بل لأنه يعزز فكرة المواطنة بثلاثة أركانها: الحرية والمساواة والمشاركة الفعالة، فالانتخابات الصحيحة نوع من تدريب دوري على المواطنة، التي لا تقتصر على حق الانتخاب، بل تتعداه إلى مراقبة الانتخابات والحرص على شفافيتها ونزاهتها، ومراقبة الهيئات المنتخبة وتقويم أدائها ومحاسبتها.
أخيراً، إنّ التوافق على عقد اجتماعي جديد ليس نهاية المطاف، بل بداية عمل جاد ومتواصل في سبيل الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية، لحل المشكلات المزمنة، التي ظهرت للعيان، وردم الهوة التي تعمّقت بين المجتمع والدولة حتى بلغت درجة التخارج؛ إذ حلّت سيادة السلطة المستبدة والمشخصنة محل سيادة الدولة، وحلّت الامتيازات محل القانون، فانمحت الحدود بين الدولة السياسية والسلطة التي يفترض أنها سلطتها وبين المجتمع الأهلي، بقوامه الإثني والمذهبي والطبقي، حتى بات ممكناً وصفها بأنها سلطة علويين من العرب ذوي الامتيازات.
في ضوء هذه الحيثية، يبدو أن المدخل الوحيد الممكن لحل هذه "المشكلات المزمنة"، التي حالت دون الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية، هو "الإلغاء السياسي" للإثنيات والمذاهب الدينية، بحيث لا تنتج من علاقات القوة المتبادلة داخل كل منها أو من علاقات القوة المتبادلة فيما بينها أي نتيجة سياسية. فإن الإلغاء السياسي للإثنيات والمذاهب هو تمتّعها بحقوق متساوية في إطار المجتمع المدني، يضمنها الدستور، وتحدّدها القوانين العامة، التي يخضع لها الجميع بالتساوي. وهذا يقتضي تحديد الخط الفاصل – الواصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، لتكف السلطة السياسية عن الادعاء بأنّها هي نفسها، وهي وحدها، الشعب، وأنّ من يوالونها هم "أصدقاء الشعب"، ومن يعارضونها هم "أعداء الشعب"، كما كانت الحال ولا تزال.